الثلاثاء، 3 أبريل 2007


جان شمعون يصوّر للتاريخ
شمعون في “المعركة”: الوثائقي حين يصبح روائيّاً
دمشق ــ خليل صويلح
· حكاية لم تكتمل لسينمائي عند خطوط التماسأفلامه التي تستعيد ذاكرة منهوبة ومقموعة، توثيق حقيقي للحرب اللبنانيّة. إنّه جان شمعون: سينمائي على جبهات القتال، كأن مشاريعه لا تكتمل إلا في المعمعة. تحيّة لـ“الرجل المهرجان” الذي خصّه فجر يعقوب بكتاب يستعرض سيرته، ويناقش تجربته وأعماله
أنهى جان شمعون دراسته السينمائية في باريس، أوائل السبعينيات. شارك في “الثورة الطلابيّة” في أيّار (مايو) باريس 1968. ثم عاد إلى لبنان محمّلاً أفكاراً ثورية عن السينما بوصفها سلاحاً في المعركة! في بيروت، أخذته الحرب الأهلية (1975) على حين غرّة، فلم يصحُ على نفسه إلا وهو في معمعتها وأتونها. هكذا ذهب إلى الفيلم الوثائقي كأفضل تعبير عن تطلعاته، مؤجلاً عن طيب خاطر كل ما يتعلق بطموحاته الجماليّة، ومشروعه السينمائي الفعلي. لكن، مع تراكم التجارب والأفلام الوثائقيّة التي احتلت موقعاً أساسياً في “المعركة” الوطنيّة والسياسيّة، وأفرزت جمهورها الخاص، بدا أن ذاك “المشروع” نفسه اتّخذ مجرىً آخر...بدأ جان شمعون حياته المهنية بأفلام عن القضية الفلسطينية، هذه القضية التي يعتبرها جوهر المسألة، وقضيّة العرب المركزيّة التي تتمحور حولها كل المعارك المطلبيّة الأخرى. هكذا يدافع عنها حتى اليوم باعتبارها “رهاناً مستقبلياً” لا موضة قديمة، كما يعتقد بعضهم! فيلمه الأول في هذا السياق كان بعنوان “تل الزعتر” (1976) بالاشتراك مع مصطفى أبو علي وبينو أدريانو، ثم جاء “أنشودة الأحرار” (1978). خلال الحرب، اختُطف عند حاجز للقوات اللبنانية، فتدخل لإنقاذه الرئيس الراحل كميل شمعون شخصيّاً، بعد أن اعتبره “الخروف الأسود في العائلة”.سينمائي خط التماس، لم يتردد لحظة واحدة في توثيق الحرب الأهلية اللبنانية في جسارة تشبه عبثية الحرب نفسها. في حصار بيروت عام 1982، ألغى جان شمعون مشروع فيلمه عن أنطون سعادة (زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي)، حمل الكاميرا واتجه إلى شارع الحمراء. وجده خالياً وكانت المقاهي مقفرة. لحظتها، ولدت لديه فكرة مباغتة: أن يرتدي عباءة بيضاء، ويتجوّل في الشارع لاقتناص مفتاح شريطه الجديد. استأجر حماراً من رجل عجوز، كان يقبع وحيداً أمام بناية خربة، واتجه إلى “مقهى باريس”، مربط خيل المثقفين يومها. حمّل الحمار مصلاً مربوطاً إلى أنبوب، وأخفاه عن عين الكاميرا، ثم أوقف الحمار أمام واجهة المقهى، كلّما تمّ الضغط على كيس المصل كانت الماء تنفر، فيبدو الحيوان كأنّه يبول. كان سؤال اللقطة الأولى: أين ذهب المثقفون الذين كانت تغصّ بهم مقاهي الشارع؟ شراسة الحصار قادت عدسة جان شمعون إلى مناطق أكثر عنفاً ووحشية. كان أول الشهود على مجازر صبرا وشاتيلا. اختارت إحدى القنوات الأميركية ست دقائق من الشريط عن “الدياسبورا الفلسطينية”، بينها مشاهد خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت.وبعد هذه المسيرة “النضاليّة” والسينمائيّة الصاخبة التي تَشارك فيها مع رفيقة دربه مي المصري، ولم ينتج خلالها حتّى الآن سوى فيلم روائي طويل واحد، ها هو السينمائي اللبناني الرائد محور الاحتفاء والتكريم، بعد صدور كتاب يورّخ مسيرته بعنوان “جان شمعون: الرجل المهرجان”ويحمل توقيع الناقد فجر يعقوب (سلسلة “كراسات السينما” في دبي). الكتاب محاولة لاقتفاء أثر صاحب “رهينة الانتظار” ومشاريعه السينمائية التي لا تكتمل إلا في لهيب النار وأتون التجربة.في حصار بيروت، التقى جان سينمائية فلسطينية مغامرة هي مي المصري. عملا معاً في مؤسسة السينما الفلسطينية، قبل أن يتزوجا في باريس، وكانت حصيلة هذه الشراكة أفلام عدة، مثل “تحت الأنقاض” (1982)، و“زهرة القندول” (1985) و“أحلام معلّقة” (1992). في هذه الأشرطة تتقاطع وتتواشج صور قصف المخيمات الفلسطينية والضاحية الجنوبية، وحكايات قرى الجنوب في مواجهة الهمجيّة الإسرائيليّة... سجل عمل ميداني حقيقي لم يتردد خلاله السينمائي في التعرّض للموت بقصد الحصول على لقطة واحدة. يروي جان شمعون بعض ذكرياته عن تلك الفترة، وصعوبة تظهير أفلامه، وكيفية إحضار “مافيولا” إلى المنزل لعمل مونتاج للأفلام التي كان يصورها في جحيم الحرب، وحجم الدمار ووقعه على النفس البشرية. “في أحد أفلامي، بقينا، مي وأنا ثلاثة أيام نحاول أن نصور الحوارات بين مقاتلي الميليشيات على خطوط التماس. صعدتُ إلى سطح بناية مدمرة ومكشوفة، ووضعت الميكروفون هناك بانتظار الإجابة، وعانينا من هول القصف والقنص من أجل تصوير المشهد. على رغم أن الشتائم المتبادلة والنكات البذيئة بين طرفي القتال كانت مسألة عادية... جزءاً من لغة الحرب”. لاحقاً، سيتوغل جان شمعون في عمق الجنوب اللبناني لتصوير واقع آخر أكثر تراجيدية. وفي هذه المرحلة بزغت فكرة مزج الروائي بالوثائقي “دوكو ــ دراما”.في “رهينة الانتظار” (1994)، تذهب الطبيبة النسائية ليلى نور الدين، القادمة من باريس، إلى قرى الجنوب لمعاينة الواقع كما هو، ومن نافذة الحافلة تراكم في مخيلتها صور الدمار والموت، ووجوه تعيش بسالة الانتظار... وتقوم بتسجيل ذاكرة غائبة “يمكن الاستدلال عليها من فجوة في الجدار. فجوة لا تقدر عليها قذائف الأعداء، لأنها مفتوحة على منطق من يمتزج في الهواء وعلى درجة عالية من الواقعية الرطبة”. ما يفعله هذا المخرج لتظهير أفكاره، أنّه يعيد بناء المشاهد مع شخصيات حقيقية، وأمكنة حقيقية. كما لو أنّ الأمر يدور في سيناريو فيلم روائي. لكن الجوهر، كما يقول مستدركاً “يبقى وثائقياً”. هكذا، يدور الحوار بين خديجة الحرز وأم علي في “زهرة القندول”، حول استعادة ذاكرة منهوبة ومقموعة. تتمشى خديجة عند أطلال معتقل أنصار، وتستحضر فترة اعتقالها مرة أخرى أمام عدسة الكاميرا. كما تتذكر زوجها المعتقل وراء سور من الأسلاك الشائكة وتصرخ مرددة اسمه بنداء متكرر. في مثل هذا المشهد تتحد الدراما بالوثيقة، وتتعزز شحنة بصرية إضافية عن حقيقة الواقعة وشكلها الخام.يرفض جان شمعون إطلاق صفة مخرج “تسجيلي”، ويفضّل عليها مصطلح “وثائقي”: “لست آلة تسجيل، أنا أشتغل على التوثيق”. ويوضح فكرته على نحو آخر: “أنا إنسان. أفكر ولدي توجه جمالي، لأن ما يسمى الفيلم التسجيلي يجب أن يمتلك الخيال أيضاً في الشكل والمحتوى. إنه وثيقة للتاريخ، ويكفي أن تصوّر لقطة واحدة حتى تصبح بعد ربع دقيقة وثيقة”. كما يردّ صاحب “بيروت: جيل الحرب” بشدّة على منتقديه الذين يرون أن الفيلم الوثائقي جاء على حساب مشروعه الروائي: “سيظل للفيلم الوثائقي الأولوية في حياتي، فطريقة الشغل عليه، تربطني أكثر بالناس وبالشخصيات التي تمتلك تجارب حية في الواقع”. ويضيف: “أنا أصنع أفلاماً لأنني أحس بحاجتي إلى فعل ذلك. ولم يخطر في بالي يوماً، أن أسأل عن موقعي في السينما اللبنانية. فهذا الأمر هو آخر ما أفكر فيه”.في “طيف المدينة” (2000)، عمله الروائي الأول، والوحيد حتّى الآن، لم يبتعد شمعون بما فيه الكفاية عن نزعته الوثائقية، ولم يترك مسافةً كافية بين أسلوبه المعهود وبنية السينما الروائيّة ومقتضياتها. جاء السيناريو قائماً على شهادات مستوحاة من تجربة الحرب التي عاشها المخرج شخصياً على خطوط التماس. وبدا الشريط في نسخته النهائية أشبه بأنطولوجيا تعبّر (أو تلخّص، أو تختتم) كل ما تحقق من سينما الحرب في لبنان. ولكن لمَ لا؟ لعلّها طريقة جان في التخلّص من تراث كامل يختصر عمره المهنيّ، تمهيداً للارتماء في أحضان السينما الروائيّة التي طالما حلم بها. نحن بلا شكّ في انتظار فيلمه الروائي المقبل.

ليست هناك تعليقات: